القسّ متري الراهب: لا يمكن اللاهوت بعد غزة أن يكون كاللاهوت قبلها
مقابلة خريستو المر
المسيحية الصهيونية ليست مجرّد بدعة إنّها لوبي سياسي
لا بدّ من إعادة قراءة الكتاب المقدس كأدب مقاومة
القسيس الفلسطيني الدكتور متري الراهب، راعي كنيسة الميلاد الإنجيلية اللوثرية في بيت لحم، هو مؤسس كلية دار الكلمة الجامعية. كاتب لاهوتي، مؤلف كتاب «إنهاء الاستعمار في فلسطين»، وقد حاز كتابه «بيت لحم محاصرة»، الذي يحكي قصة حصار كنيسة المهد كما عايشها من نافذة بيته، جائزةَ أفضل كتاب روحي ينشر في الولايات المتحدة في عام ٢٠٠٤. في هذا الحوار، بعد مرور عام على الإبادة المستمرة في غزة، يتحدّث عن موقف الكنائس من الحرب وعن دور الصهيونية المسيحية.
ما هو تقييمكم لموقف الكنائس -شرقيّة وغربيّة- المقيمة في بلادنا من حرب الإبادة الحاليّة؟
الإبادة تطال شعب الكنائس في فلسطين. أكان في غزّة هناك كنائس مسيحيّة أصيلة وليست مستحدثة، تعود جذورها إلى ما يزيد على 1600 عام، وبالتالي لها أعضاء ومؤسّسات وكنائس في غزّة. ولكن بشكل عام موقف الكنائس هو موقف دعم للصمود، ولكنّه سياسيّاً موقف ينتابه شيء من الحياء. صوت الكنيسة المحلّية خافِت، ربّما لأنّ الكثير من رؤسائها هم من الأجانب وليسوا من الفلسطينيّين.
هناك تنديد، هناك بيانات، ولكن ليس هناك صوت نبوي واضح وقوي وفاعل، هذا ما ينقصنا في فلسطين حالياً. ولكن هناك أصوات لمسيحيين طبعاً قوية ونبوية وتخاطب العالم بشكل عام.
وماذا عن مواقف الكنائس في بلاد العرب خارج فلسطين؟
أعتقد أنّ كنائس الشرق الأوسط منقسمة على ذاتها، وأكثر الكنائس تأخذ موقف زعمائها. فالموقف في مصر مثلاً يختلف عن الموقف في سوريا، ويختلف عن الموقف في لبنان، وفي داخل لبنان هناك مواقف عدة، فالموقف الأرثوذوكسيّ ربما يختلف عن الموقف الماروني؛ وفي الأردن ربما هناك أيضاً موقف يتبع موقف القدس إجمالاً. بالتالي، فإنّ الصورة ليست نمطية وليست واحدة، بل هناك أصوات وأنماط متعددة في الكنائس، بعضها قوي وبعضها أضعف.
تكلمت عن المواقف النبوية فماذا عن موقف كايروس، لقد كان موقفاً نبويّاً في السابق فما هو الموقف اليوم؟
كايروس، أو «وقفة حقّ»، مبادرة لها موقف قوي من حرب الإبادة وهي تجاهر بذلك هنا وفي الخارج. ولكنّها ليست مؤسسة كنسية بهذا المعنى، فهي مبادرة مسيحية ولكنّها ليست مبادرة كنسيّة؛ وبالتالي فإنّ كايروس لا تعبّر اليوم عن صوت الكنائس في القدس، وإنما هي صوت يتحدى ويحاول أن يدفع كنائس القدس لأخذ موقف أكثر قوة.
ما هو تقييمكم لموقف الكنائس المقيمة في الغرب من حرب الإبادة؟
الكنائس في الغرب منقسمة على ذاتها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. فهناك في أقصى اليمين المسيحيون الصهاينة وكنائسهم الحرّة ليس فقط في أميركا، وإنما أيضاً في أوروبا وأفريقيا وحتى في أميركا اللاتينية، هناك قوى مسيحية صهيونية في تنامٍ مستمر وهو أمر مقلق، ولكن أيضاً هناك كنائس تقف مع الحق الفلسطيني، مع حق تقرير المصير ضد الإبادة. مثلاً في أميركا، للكنيسة المشيخية، وكنيسة المسيح المتّحدة (United Church of Christ)، وكنيسة التلاميذ، والكنائس اللوثريّة، دور قوي؛ فقد طالبوا الحكومة الأميركية بعدم إرسال أسلحة إلى إسرائيل، كما أنّ الكنيسة المشيخية سحبت استثماراتها من مصانع أو مؤسسات تدعم الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية. إذاً، هناك كنائس لها مواقف مشرفة أكثر من الدول العربية وحتى الإسلامية. لا بد للحقّ بأن يُقال، وأن نشكر الكنائس التي تأخذ موقفاً قويّاً وتدفع ثمنه. اليوم بعض الكنائس تدفع ثمن وقفتها مع الشعب الفلسطيني، فهي أحياناً تُجرّ إلى المحاكم في محاولة لتشويه سمعتها. هذه الكنائس في الغرب لها مواقف أقوى من الكنائس في القدس، هذا حق لا بد أن يقال. ولكن أيضاً هناك المسيحيّة الصهيونية والتي تدعم حرب الإبادة.
أريد أن أتابع مع موضوع المسيحية الصهيونية. كيف تواجه الكنائس المختلفة المسيحية الصهيونية؟ هل هناك مواجهة لهذه الأيديولوجية داخل الكنائس المسيحية؟
نعم، في الواقع كنائس ومنذ أمد بعيد تحاول أن تسلط الضوء على خطر المسيحية الصهيونية. مثلاً، بالأمس كان لي لقاء مع الكنيسة المشيخية في الولايات المتحدة عبر الإنترنت حول موضوع المسيحية الصهيونيّة والاستعمار الإحلاليّ والقوميّة الدينيّة. المسيحية الصهيونية حسب ما شرحتها في كتابي الجديد «إنهاء الاستعمار في فلسطين» (Decolonizing Palestine) ليست فقط مجموعة تقرأ الكتاب المقدس بطريقة خطأ، أي إنّها ليست مجرّد بدعة مسيحية، إنّها لوبي داعم لاستعمار الأرض الفلسطينية وإحلال اليهود بدلاً من الفلسطينيين فيها، لوبي يستغلّ أو يستخدم مجرّد بضع آيات من الكتاب المقدس من مجمل الكتاب، ليفسّروها كما يروق لهم. وبالتالي، هذه حركة خطرة جداً، تجمع الأموال من أجل دعم إسرائيل عسكرياً؛ إنّها لوبي سياسي داعم لإسرائيل في الكونغرس، ولكن أيضاً في دول أوروبا، وحتّى في بعض دول أفريقيا وأميركا اللاتينية (البرازيل، مثلاً، أثناء حكم الرئيس السابق بولسونارو كانت أكبر مثال).
كما إنّه لا بدّ أن نرى أيضاً المسيحية الصهيونية اليوم كجزء من صعود اليمين الديني المتطرف بكل أشكاله. هناك اليوم يمين ديني يهوديّ في إسرائيل تمثله بعض التيارات في الحكومة الإسرائيلية الحالية، وهناك صعود اليمين في الولايات المتحدة كما رأينا أثناء رئاسة الرئيس الأميركيّ السابق ترامب (الذي قد يعود للحكم)، وهناك يمين بولسونارو في البرازيل، ويمين مودي في الهند، إلى ما هنالك. هكذا نرى صعود يمين متطرف يربط القوميّة والعنصريّة والدين في بوتقة واحدة وهذا هو خطر هذه الحركات. المسيحية الصهيونية اليوم هي جزء من هذا الحراك، وهذا الحراك يدعم المسيحية الصهيونية.
جامعة دار الكلمة اهتمّت بهذا الموضوع، فأقمنا قبل سنتين في تشيلي مؤتمراً عاماً لكل أميركا اللاتينية حول المسيحية الصهيونية في أميركا اللاتينية؛ وهناك مؤتمر دولي سنقيمه في الأردن في شهر كانون الثاني من عام 2025 عن موضوع المسيحية الصهيونية وأثرها على مسيحيي الشرق لأنّ المسيحيّة الصهيونيّة معادية أيضاً للمسيحيين في الشرق. وفي شهر أيّار من عام 2025 ستقيم الجامعة أيضاً مؤتمراً ثالثاً في الدنمارك عن المسيحية الصهيونية في الدول الإسكندنافية. جامعتنا في الواقع تحاول أن تجمع المفكرين الذين عملوا هذا الموضوع للتفكير في طرق لمواجهة هذا المدّ المسيحي الصهيونيّ الذي يؤثر علينا. وأشير إلى أنّ هناك فصلاً كاملاً عن موضوع المسيحية الصهيونية وإعادة تعريفها في كتابي «إنهاء الاستعمار في فلسطين».
هل هناك مشاريع تعمل عليها الكنيسة أو المؤسسات التي تديرها لتعزيز الصمود الفلسطيني في مواجهة التحديات الراهنة؟
طبعاً. يشكّل المسيحيون اليوم في فلسطين ما نسبته 1% من مجموع السكان. ولكن في دراسة قامت بها جامعة دار الكلمة منذ أربع سنين عن المؤسسات المسيحية، هناك حوالى ثلاثمئة مؤسسة مسيحية تعمل في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية (لم نستطع أن نغطّي فلسطين التاريخية). هذه المؤسسات تشكّل ثالث أكبر مشغّل في فلسطين بعد الدولة السلطة الفلسطينية التي تُعتبر أكبر مشغّل، والتي يليها وكالة غوث اللاجئين (الأونروا). المؤسسات الكنسية تشغّل ما يقارب من تسعة آلاف شخص، مع أنّ كل المسيحيين هم أقل من 50,000 شخص. تضخّ المؤسّسات الكنسيّة تلك في الأراضي الفلسطينية في فلسطين ما تزيد قيمته على أربعمئة مليون دولار أميركي بالسنة.
إذا نظرنا إلى مؤسسات المجتمع المدني في فلسطين 45% منها تقريباً أسسها مسيحيون فلسطينيون. وإذا أخذنا قطاع الصحة، فإنّ ثلث الخدمات الصحية في فلسطين تقدّمها المؤسسات الكنسية، وإذا أخذنا مواضيع الرعاية الاجتماعية وغيرها نرى دوراً واضحاً للكنائس. وطبعاً هناك دور للكنائس في التربية، فهناك جامعتان، هناك كلّيتان، وهناك حوالى أكثر من 60 مدرسة مسيحية تعمل في فلسطين. وبالتالي، فإنّ دور الكنائس ودور المؤسسات المسيحيّة لا يستهان بهما ولا يقارنان بالنسبة العدديّة للمسيحيين. وبالطبع، هذه المؤسّسات هي لجميع الفلسطينيين، يستفيد منها الفلسطينيون كافة من دون تمييز.
في رأيك، كيف يمكن للإيمان أن يكون مصدراً أو أن يلعب دوراً في عملية تحرر الفلسطيني؟ أحياناً يبدو لي بأن هناك تيّارات فكرية وإيمانية تقول إن الإنسان عليه أن ينتظر العدالة في السماء وإنه هنا على الأرض عليه أن يصلي ويصوم... فكيف يمكن للإيمان أن يكون مصدراً أو ملهماً في عملية التحرّر؟
في الواقع أنا أعتقد أن الإيمان المسيحي بالذات أيضاً مهم جداً في أي عملية تحرّر، لأن قراءة الكتاب المقدس في سياقه التاريخي تبيّن أنّ الكتاب المقدس، كما أرى، هو مجموعة من أدب المقاومة، كتابات من أدب المقاومة، وهذا له علاقة بتاريخ فلسطين. ففلسطين، للأسف، على مدى قرون كثيرة عاشت تحت احتلالات من القوى الإقليمية الكبيرة المحيطة بها، وبالتالي إنّ الكتاب المقدس الذي خرج من فلسطين حاول أن يجيب عن أسئلة مصيرية عدة لشعب أرض فلسطين. لأنّ القوة الغاشمة المحتلّة، أو الإمبراطوريات، تشعر وتظنّ أنها هي الله، لأنها كلّية القوة إذ لديها كلّ القوة العسكرية، وهي كلية المعرفة لأنّ لديها يتمّ إنتاج المعرفة، وهي موجودة في كلّ مكان بفضل التقنيات الجديدة ومنها تكنولوجيا المراقبة. هكذا، فالإمبراطوريات تتصرف وكأنها الله على الأرض. شعب فلسطين الذي عانى الأمرّين من بطش الإمبراطوريات كان يسأل نفسه أين أنت يا الله؟ هل يُعقل نكون الكلمة الأخيرة للإمبراطورية؟ ولهذا فالإيمان المسيحيّ خرج من فلسطين. الإيمان المسيحي لم يخرج من الإمبراطوريات، بل من دولة كانت محتلّة. لقد كتبت أكثريّة الكتب المجموعة في الكتاب المقدّس تحت الاحتلال. أسفار العهد القديم أكثرها كُتِبَ تحت الاحتلال الآشوري أو البابلي أو الفارسي؛ والعهد الجديد كُتِب تحت الاحتلال الروماني. وبالتالي لا بدّ من إعادة قراءة الكتاب المقدس كأدب مقاومة. لا يمكن سلخ الإيمان المسيحي عن المقاومة. حتى قصة المسيح يمكننا أن نقرأها كقصة إنسان فلسطيني قاوم الإمبراطورية الرومانية. ولهذا لا نستطيع أن نفهم موضوع ملكوت الله إلا إذا فهمنا الإمبراطورية/ فملكوت الله قوة البديل الإلهي للإمبراطورية: الإمبراطورية هي إمبراطورية قائمة على بطش القوة، بينما الملكوت قائم على قوة المحبة، وقوة العدالة، وهذه هي المفارقة بين الإمبراطورية وبين الملكوت. بالتالي لا يمكن للإنسان أن يكون مسيحياً وأن يعيش فقط كإنسان مستهلك منزوٍ عن العالم. لا، الإنسان المسيحي هو إنسان واعٍ لما يحدث حوله، يبحث، يحلل، يفكر، يصلي، ويعمل. هذا هو، في رأيي، الإنسان المسيحي كما أراده الله. قراءة المزيد